أشكال ومفهوم الحركات الاجتماعية






على ضوء قدرة النظام الرأسمالي العالمي بالمركز على التكيف مع المتغيرات الجديدة، من خلال زيادة دور الدولة في تقديم شبكة أمان اجتماعي للفئات الاجتماعية الضعيفة والمهمشة وخاصة العمال، عبر التشريعات والقوانين والأدوات التي سنها مستفيدا من الثروات التي يجنيها من الأسواق والقوى العاملة للبلدان الجنوبية، فقد ضعف دور النقابات العمالية وتراخت إمكانية التصادم ما بين من يدافع عن حقوق العمال من جهة ومن يملك وسائل الإنتاج  من جهة ثانية، كما تراجعت أدوار الأحزاب اليسارية من خلال انخراطها في بنية النظام وما يترتب على ذلك من مساومات سياسية واجتماعية تستبعد استمرارية الدفاع الجذري عن حقوق الفئات الاجتماعية المهمشة والضعيفة.
وعليه فقد كان من الطبيعي قيام بعض الحركات ما فوق الطبقية التي تدافع عن مصلحة اجتماعية معينة أو قيمية مفاهمية محددة، في إطار من الضغط الشعبي والتأثير بالحيز العام، بهدف تحقيق المكتسبات لصالح تلك الفئة الاجتماعية وإزالة الغبن والاضطهاد الممارس عليها. ولقد برز ذلك ، أي تشكيل الحركات الاجتماعية المطلبية والتخصصية واضحة الهدف الرامية إلى تحقيق المصلحة الاجتماعية المعينة أو تحقيق تحديثات على الأنظمة والتشريعات في بنية النظام، برز بوضوح من خلال ثورة الطلاب في فرنسا عام 1968، التي حققت انجازات على المستوى الديمقراطي والاجتماعي، حيث سحب هذا النموذج نفسه على تشكيل العديد من الحركات الشبابية والبيئية والنسوية في أوروبا، كما برز من خلال الحركات الرافضة للتمييز الأثني والعنصري في الولايات المتحدة والهند وجنوب إفريقيا، والهادفة إلى التأثير بالسلطة الاجتماعية( الحيز العام) ليس عبر التفاعل مع السياسة بالمفهوم المباشر
(السلطة)، ولكن عن طريق تحقيق المكتسبات والانجازات وإزالة أسباب الظلم والاضطهاد ودفع الدولة لتبني تشريعات وسياسات وإجراءات تعزز من مكانتها وتزيل الغبن الممارس عليها[1].
ولقد كانت النقابات العمالية بالبرازيل بزعامة لولا الحركة الاجتماعية الأبرز التي تحولت من التأثير بالسلطة الاجتماعية إلى العمل السياسي المباشر، حيث تحالفت مع حزب العمال البرازيلي مستفيدة من حالة الفقر والاستغلال والاستلاب والمديونية والعوز التي كانت تعيشه البرازيل في أوج أزمتها في الثمانينات والتسعينات، وقاد لولا التحركات الشعبية والاحتجاجات الاجتماعية ووصل إلى السلطة بواسطة صندوق الاقتراع عبر الانتخابات التي تمت عام 2002[2].
لقد فتحت هذه التجربة آفاقاً واسعة لتعزيز ظهور حركات اجتماعية قادرة على الربط ما بين الاجتماعي الحقوقي والمطلبي والديمقراطي من ناحية، والبعد السياسي الرامي إلى تغيير السلطة بآليات الفعل الديمقراطي من ناحية أخرى، بما يضمن مصالح الفقراء والمهمشين بدلاً من استمرارية سيطرة التحالفات البيروقراطية و الكمبرادورية على المستوى القطري والتي تدور في فلك نظام العولمة الرأسمالي.
وعليه فقد انتشرت العديد من الحركات الاجتماعية بالعالم، وأصبحت لها قوة تأثير ونفوذ جماهيري واسع لا يستطيع صناع القرار السياسي في البلدان الرأسمالية العالمية الكبرى تجاهله. وقد تعزز هذا الدور على ضوء انهيار "المنظومة الاشتراكية" وتفكك الاتحاد السوفيتي، وزيادة استفراد وهيمنة الولايات المتحدة على مقدرات البشرية، في إطار سيادة القطبية الأحادية وتعزيز المفاهيم القائمة على السوق والمنافسة والربحية على حساب الحقوق والعدالة.
وفي هذا الإطار كانت المظاهرات المعادية للحرب على العراق و أفغانستان والتحركات الشعبية ضد مؤتمر دافوس الاقتصادي، والمؤتمرات الاجتماعية العالمية التي تعقد سنوياً في العديد من بلدان الجنوب كبورتواليجيري وكاراكارس وبومباي ونيروبي، وأعمال الاحتجاج الشعبي أمام مقار اجتماعات منظمة التجارة العالمية، ومجموعة الدول الصناعية الثمانية، والتي أشرت على تصاعد ظاهرة عالمية المجتمع المدني في مواجهة عالمية رأس المال تحت شعار (عالم أفضل ممكن ) [3].
ولقد شكلت هذه التحركات حافزاً لدى القوى المتضررة من حالة الاضطهاد والاستغلال والمطالبة بعالم أفضل، وذلك بتشكيل العديد من المنظمات الأهلية والحركات الاجتماعية والنقابية، في إطار يرمي إلى الضغط باتجاه سن تشريعات وإجراءات وسياسات من قبل الدولة لصالح الفقراء والمهمشين، وتوسيع الحياة الديمقراطية القائمة على حرية النقد والتعبير والتجمع والاحتجاج والصحافة ...الخ .
 من هنا فيمكن التوصل إلى تعريف للحركات الاجتماعية بوصفها جهد منظم يقوم بها عدد من الناس المؤثرين، ويهدف إلى تغيير ( أو مقاومة تغيير ) جانب أساسي أو أكثر من المجتمع، وهي – أي هذه الحركات- هادفة ومنظمة، وتكون أهدافها محددة أو واسعة وقد تكون ثورية أو إصلاحية[4].
ولعل السؤال الذي يُثار: هل من الممكن أن تكون هذه المنظمات والحركات في إطار المجتمع المدني أداة تحول باتجاه بناء تيار ديمقراطي اجتماعي قادر على التأثير والتغيير في المجتمعات ومنها المجتمع الفلسطيني، خاصة إذا أدركنا أن الحالات الواردة أعلاه تؤكد تركيزها على الطابع الاجتماعي المطلبي الحقوقي أساساً، أم من الممكن أن تكون أحد روافد التيار الرامي إلى التأثير بالحياة السياسية والاجتماعية والتغيير لصالح قضايا الديمقراطية والعدالة والتنمية المستدامة، وهل هناك شروط يجب توفرها في بنية ورؤية وتركيبة وأداء المنظمات الأهلية، والحركات الاجتماعية لتصبح أحد الأدوات الاستنهاضية لبناء التيار الديمقراطي المنشود ورافداً من روافده الهامة؟
أعتقد ومن أجل الإجابة على هذا التساؤل فنحن بحاجة لإلقاء نظرة سريعة على حالة المجتمع المدني في البلدان العربية، ثم الانتقال لخصوصية الحالة الفلسطينية.


[1] روبيرتس تيمونز: من الحداثة إلى العولمة، ج2، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الطبعة الثانية 2004، ص 234.
[2] مؤلف جماعي: المجتمع المدني والصراع الاجتماعي، القاهرة: مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان، 1997، ص 176-197.
[3] سمير أمين وفرانسوا أوتار: مناهضة العولمة-حركة المنظمات الشعبية في العالم، القاهرة : مكتبة مدبولي، 2004، ص 285.
[4] عزة خليل: الحركات الاجتماعية في العالم العربي، القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006، ص27.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نشأة وتطور الخدمة الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية

الخدمة الإجتماعية في مجال رعاية الفئات الخاصة - ذوي الاحتياجات الخاصة

وفد ألماني يزور مدينة الثقافة والعلوم بالسادس من اكتوبر قريبا .